فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ}
تنزيه له عن أن يجانس أحدًا، أو يحتاج إليه، وتعجب من كلمتهم الحمقاء: {هُوَ الْغَنِيُّْ} أي: الذي وجوده بذاته، وبه وجود كل شيء، فكيف يماثله شيء؟! ومن له الوجود كله فكيف يجانسه شيء؟! والجملة علة لتنزيهه، وإيذان بأن اتخاذ الولد من أحكام الحاجة، إما للتقوي به، أو لبقاء نوعه: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ} تقرير لغناه، أي: فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدًا: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} أي: ما عندكم من حجة بهذا القول الباطل [في المطبوع: الباطن] توضيح لبطلانه، بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض، أي: ليس بعد هذا حجة تسمع. والمراد تجهيلهم، وأنه لا مستند لهم سوى تقليد الأوائل، وإتباع جاهل لجاهل.
تنبيه:
دلت الآية على تسمية البرهان سلطانًا.
قال الإمام ابن القيم في مفتاح دار السعادة: إنه سبحانه سمى الحجة العلمية سلطانًا. قال ابن عباس رضي الله عنه: كل سلطان في القرآن فهو حجة، وهذا كقوله تعالى: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} يعني ما عندكم من حجة بما قلتم، إن هو إلا قول على الله بلا علم. وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: من الآية 23]، يعني ما أنزل بها حجة ولا برهانًا، بل هي من تلقاء أنفسكم وآبائكم. وقوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} يعني حجة واضحة. إلا موضعًا واحدًا اختلف فيه، وهو قوله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ}، فقيل: المراد به القدرة والملك، أي: ذهب عني مالي وملكي، فلا مال لي ولا سلطان، قيل: هو على بابه، أي: انقطعت حجتي وبطلت، فلا حجة لي. والمقصود: أن الله سبحانه سمى علم الحجة سلطانًا؛ لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره، فله بها سلطان على الجاهلين، بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجة تنقاد لها القلوب، وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن. فالحجة تأسر القلب وتقوده، وتذل المخالف وإن أظهر العناد والمكابرة، فقلبه خاضع لها ذليل، مقهور تحت سلطانها. بل سلطان الجاه إن لم يكن معه علم يساس به، فهو بمنزلة سلطان السباع والأسود ونحوها، قدرة بلا علم ولا رحمة، بخلاف سلطان الحجة، فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة، ومن لم يكن له اقتدار في علمه، فهو إما لضعف حجته وسلطانه، وإما لقهر سلطان اليد والسيف له، وإلا فالحجة ناصرة نفسها، ظاهرة على الباطل قاهرة له- انتهى-.
{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} توبيخ وتقريع على جهلهم. قال الزمخشري: لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله، فذاك جهل وليس بعلم.
وقال أبو السعود: فيه تنبيه على أن كل مقالة لا دليل عليها، فهي جهالة، وأن العقائد لابد لها من برهان قطعي، وأن التقليد بمعزل من الاعتداد به. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ}
بيان لجملة: {ألا إن لله مَن في السماوات ومَن في الأرض} [يونس: 66] إلى آخرها، وفي هذا البيان إدماج بحكاية فن من فنون كفرهم مغاير لادعاء شركاء لله، لأن هذا كفر خفي من دينهم، ولأن الاستدلال على إبطاله مغاير للاستدلال على إبطال الشركاء.
فضمير: {قالوا} عائد إلى: {الذين يدعون من دون الله شركاء} [يونس: 66] أي قال المشركون: {اتخذ الله ولدًا}.
وليس المراد من الضمير غيرَهم من النصارى لأن السورة مكية والقرآن المكي لم يتصد لإبطال زيغ عقائد أهل الكتاب، ذلك أن كثيرًا منهم كانوا يزعمون أن لله بنات هم الملائكة، وهم بناته من سَروات نساء الجن، ولذلك عَبَدت فرق من العرب الجن قال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعًا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت وَليُّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} [سبأ: 40، 41].
والاتخاذ: جعل شيء لفائدة الجاعل، وهو مشتق من الأخذ لأن المتخذ يأخذ الشيء الذي يصطفيه.
وقد تقدم في قوله تعالى: {أتتخذ أصنامًا آلهة} في سورة [الأنعام: 74]، وقوله: {وإن يَروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلًا} في [الأعراف: 146]، فالاتخاذ يصدق على أخذ شيء موجود للاستئثار به، ويصدق على تكوين شيء للانتفاع به.
وهو هنا صالح للمعنيين لأن منهم مَن يعتقد تولد الولد عن الله تعالى، ومنهم مَن يعتقد أن الله تبنَّى بعض مخلوقاته.
والولد: اسم مصوغ على وزن فَعَل مثل عَمَد وعرب.
وهو مأخوذ من الولادة، أي النتاج.
يقال: ولدت المرأة والناقة، ولعل أصل الولد مصدر ممات على وزن فعل مثل الفَرح.
ومن أجل ذلك أطلق على الواحد والجمع كما يوصف بالمصدر.
يقال: هؤلاء ولد فلان.
وفي الحديث أنا سيد ولَدِ آدمِ والمراد هنا الجمع لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله استولدها من سروات الجن قال تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه} [النحل: 57].
وجملة: {سبحانه} إنشاء تنزيه للرد عليهم، فالجملة جواب لذلك المقال ولذلك فصلت عن التي قبلها.
وهو اسم مصدر لـ (سَبَّح) إذا نزّه، نائب عن الفعل، أي نسبحه.
وتقدم عند قوله تعالى: {قالوا سبحانك لا علم لنا} في سورة [البقرة: 32]، أي تنزيهًا لله عن هذا لأن ما قالوه يستلزم تنقيص الله تعالى، ولذلك بُينت جملةُ التنزيه بجملة: {هو الغني} بيانًا لوجه التنزيه، أي هو الغني عن اتخاذ الولد، لأن الإلهية تقتضي الغنى المطلق عن كل احتياج إلى مُكمِل نقص في الذات أو الأفعال، واتخاذ الولد إما أن ينشأ عن اندفاع طبيعي لقضاء الشهوة عن غير قصدِ التوليد وكونُها نقصًا غير خفي، وإما أن ينشأ عن القصد والتفكير في إيجاد الولد، وذلك لا يكون إلا لسد ثلمة نَقص من حاجة إلى معنى في الحياة أو خَلَف بعد الممات.
وكل ذلك مناف للإلهية التي تقتضي الاتصاف بغاية الكمال في الذات والصفات والأفعال.
والغَنِيُّ: الموصوف بالغِنى، فعيل للمبالغة في فعل (غَنِيَ) عن كذا إذا كان غير محتاج، وغنى الله هو الغنى المطلق، وفسر في أصول الدين الغنى المُطلق بأنه عدم الافتقار إلى المُخَصِّص وإلى المحل، فالمخصص هو الذي يُعين للممكن إحدى صفتي الوجود أو العدم عوضًا عن الأخرى، فبذلك ثبت للإله الوجودُ الواجب، أي الذي لا يتصور انتفاؤه ولذلك انتفى عنه التركيب من أجزاء وأبعاض ومن أجل ذلك امتنع أن ينفصل عنه شيء منه، والولد ينشأ من جزء منفصل عن الوالد، فلا جرم أنْ كان الغَنِيُّ منزّهًا عن الولد من جهة الانفصال، ثم هو أيضًا لا يجوز أن يتخذ بعض المخلوقات ولدًا له بالتبني لأجل كونه غنيًا عن الحاجات التي تبعث على اتخاذ الولد من طلب معونة أو إيناس أو خلَف، قال تعالى: {وقالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه بل عباد مكرمون} [الأنبياء: 26] وقال: {بديع السماوات والأرض أنَّى يكون له ولد} [الأنعام: 101].
وجملة: {له ما في السماوات وما في الأرض} مقررة لوصف الغنى بأن ما في السماوات وما في الأرض ملكه، فهنو يسخر كل موجود لما خلقه لأجله، فلا يحتاج إلى إعانة ولد، ولا إلى ترفيع رتبة أحد استصناعًا له كما يفعل الملوك لقواد جيوشهم وأمراء أقطارهم وممالكهم لاكتساب مودتهم وإخلاصهم.
وهذا مساو للاستدلال على نفي الشريك في قوله آنفًا: {ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يَتبع الذين يَدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن} [يونس: 66] ودل قوله: {له ما في السماوات وما في الأرض} على أن صفة العبودية تنافي صفة البُنُوة وذلك مثل قوله: {وقالوا اتخذ الرحمان ولدًا سبحانه بل عباد مُكرمون} [الأنبياء: 26].
ويؤخذ من هذا أن الولد لا يُسترقُّ لأبيه ولا لأمّه ولذلك يعتق الولد على من يملكه من أب أو أم وإن عَلَيَا.
وجملة: {إنْ عندكم من سلطان بهذا} جواب ثان لقولهم: {اتَّخذ الله ولدًا} فلذلك فُصلت كما فصلت جملة: {سبحانه}، فبعد أن استدل على إبطال قولهم، سجل عليهم أنهم لا حجة لهم في قولهم ذلك.
و: {إن} حرف نفي.
و: {مِن} مزيدة لتأكيد النفي بالاستغراق، أي استغراق نفي جميع أنواع الحجة قويِّها وضعيفها، عقليِّها وشرعيِّها.
و(عند) هنا مستعملة مجازًا.
شُبِّه وجودُ الحجة للمحتج بالكون في مكانه، والمعنى: لا حجَّة لكم.
و: {سلطان} محله رفع بالابتداء، وخبره: {عِندكم} واشتغل آخر المبتدأ عن الضمة بكسرة حرف الجر الزائدة.
والسلطان: البرهان والحجة، لأنه يكسب المستدل به سلطة على مخالفه ومجادله.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {ما نزل الله بها من سلطان} في سورة [الأعراف: 71].
والباء للملابسة، وهي في موضع صفة لسلطان، أي سلطان ملابس لهذا.
والإشارة إلى المقول.
والمعنى: لا حجة لكم تصاحب مَقولكم بأن الله اتخذ ولدًا.
وجملة: {أتقولون على الله ما لا تعلمون} جواب ثالث ناشيء عن الجوابين لأنهم لما أُبطل قولهم بالحجة.
ونُفي أن تكون لهم على قولهم حجة كانوا أحرياء بالتوبيخ والتشنيع بأنهم يجترئون على جناب الله فيصفون الله بما لا يعلمون، أي بما لا يوقنون به، ولكونها جوابًا فصلت.
فالاستفهام مستعمل في التوبيخ، لأن المذكور بعده شيء ذميم، واجتراء عظيم وجهل كبير مركب. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ}
ونفس نص الآية الكريمة يكذِّبهم فيما يدَّعونه.
ومثال ذلك: أنك حين تقول: اتخذ فلان بيتًا أي: أن فلانًا له ذاتية سابقة على اتخاذه للبيت، وبها اتخذ البيت، فإذا قيل: {اتخذ الله وَلَدًا} [يونس: 68].
فهذا اعتراف منهم بكمال الله تعالى وذاتيته قبل أن يتخذ الولد.
وهم قد اختلفوا في أمر هذا الولد، فمنهم من قال: إن الملائكة هن بنات الله وكذَّبهم الحق سبحانه في ذلك، ومنهم من قال: عزير ابن الله وهم اليهود وقد كذَّبهم الله سبحانه في ذلك، وطائفة من المسيحيين قالوا: إن المسيح ابن الله، وكذَّبهم الحق سبحانه في ذلك.
ثم ما الداعي أن يتخذ الله الولد؟
هل استنفد قوته حتى يساعده الولد؟!
وهل يمكن أن يضعف سبحانه معاذ الله فيمتد بقوة الولد أو يعتمد عليه؟!
مثلما يقال حين يواجه شيخٌ شابًّا، ويعتدي الشاب على الشيخ، فيقال للشاب: احذر؛ إن لهذا الشيخ ولدًا أقوى منك؛ فيرتدع الشاب، أو أن يقول الشيخ للشاب: إن أبنائي يفوقونك في القوة، وفي هذا اعتداد بالأولاد.
ويريد الحق سبحانه أن يغفل كل هذه الدعاوي ولتكون حركة الحياة متماسكة متلازمة، لا متعارضة ولا متناقضة؛ لذلك ينبغي أن يكون المحرِّك إلهًا واحدًا تصدر منه كل الأوامر، فلا تعارض في تلك الأوامر؛ لأن الأوامر إن صدرت عن متعدد فحركة الحياة تتصادم بما يبدد الطاقة ويفسد الصالح.
ولذلك لابد أن يكون الأمر صادرًا من آمر واحد يُسْلَّم له كل أمر، وهذا الإله منزَّه عن كل ما تعرفه من الأغيار، فله تنزيه في ذاته؛ فلا ذات تشبه ذاته، ومنزَّه في صفاته؛ فلا صفة تشبه صفته، ومنزَّه في أفعاله؛ فلا فعل يشبه فعله.
وحتى نضمن هذه المسألة لابد أن يكون الإله واحدًا، ولكن بعضًا من القوم جعلوا لله شركاء، ومن لم يجعل له شريكًا، توهَّم أن له ابنًا وولدًا.
ونقول لهم: إن كلمتكم: {اتخذ الله وَلَدًا} [يونس: 68] ترد عليكم؛ لأن معنى اتخاذ الولد أن الألوهية وُجِدَت أولًا مستقلة، وبهذا الألوهية اتخذ الولد.
ومن المشركين من قال: إن الملائكة بنات الله.
فردَّ عليهم الحق سبحانه: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 2122].
والكمال كله لله سبحانه فهو كمال ذاتي؛ ولذلك يأتي في وسط الآية ويقول تعالى: {سُبْحَانَهُ هُوَ الغني} [يونس: 68].
وسبحانه تعني: التنزيه، وهو الغني أي: المستغني عن مُعِين كما تستعينون أنتم بأبنائكم، وهو دائم الوجود؛ فلا يحتاج إلى ابن مثل البشر، وهم أحداث تبدأ وتنتهي؛ لذلك يحبون أن يكون لهم أبناء كما يقول الشاعر:
ابني يا أنا بعد ما أقَضي

ويقال: من لا ولد له لا ذِكْر له، كأن الإنسان لما علم أنه يموت لا محالة أراد أن يستمر في الحياة في ولده.
ولذلك حين يأتي الولد للإنسان يشعر الإنسان بالسرور والسعادة، والجاهل هو من يحزن حين تلد له زوجته بنتًا؛ لأن البنت لن تحمل الاسم لمن بعدها، أما الولد والحفيد فيحملان اسم الجد، فيشعر الجد أنه ضمن الذِّكْر في جيلين.
إذن: فاتخاذ الولد إما استعانة وإما اعتداد، والحق سبحانه غنيٌّ عن الاستعانة، وغني عن الاعتداد؛ لأنك تعتد بمن هو أقوى منك، وليس هناك أقوى من الله تعالى، وهو سبحانه لا يحتاج لامتداد؛ لأنه هو الأول وهو الآخر، وعلى ذلك ففكرة اتخاذ الولد بالنسبة لله تعالى لا تصح على أي لون من ألوانها.